المناظرة بين الفن والعلم- رؤية الغزالي للعقلانية الحجاجية وأخلاقياتها

المؤلف: د. معتز الخطيب08.12.2025
المناظرة بين الفن والعلم- رؤية الغزالي للعقلانية الحجاجية وأخلاقياتها

في مقالي السابق، تناولت مكانة المناظرة في تصنيف العلوم بالتراث الإسلامي، مُبينًا أن الجدل والحِجاج يمثلان عنوانًا شاملاً لفنون الجدل الفقهي، مما يكشف عن أنماط مختلفة من العقلانية. آنذاك، أرجأت تفصيل الآفات الأخلاقية الملازمة للعقلانية الحِجاجية، وهو ما سأعالجه في هذا المقال. هنا، أود أن أطرح إطارًا مفهوميًا شاملاً يقوم على التمييز بين المناظرة كفن والمناظرة كعلم. هذا التمييز يقودنا إلى نمطين من العقلانية الحجاجية: عقلانية شكلية تركز على الصياغة اللغوية، وعقلانية غائية تهتم بالقيمة النبيلة والهدف الأسمى، وتسعى لإقناع الذات قبل إقناع الآخرين. لتوضيح هذه الفكرة، سأستعين بآراء الإمام أبي حامد الغزالي (ت. 505هـ)، مع تجميع أفكاره وتقديمها في إطار نظري متكامل.

بالرغم من الانتقادات التي وجهها الغزالي لعلم المناظرة، إلا أن مراده كان تهذيبه وإصلاحه، وليس إلغاءه أو ذمه. بعد دراسة متعمقة لنقاشات الغزالي حول الخلافات والمناظرة، وتجميع أفكاره المتناثرة في مؤلفاته، توصلت إلى بناء رؤية متماسكة قدمها الغزالي لإصلاح فن المناظرة والجدل. هذه الرؤية تتضمن -في تصوري- ثلاثة مستويات أساسية:

  1. أولاً: تحديد مقاصد المناظرة؛ بحيث تكون غائية تجمع بين الجانب المعرفي والأخلاقي، وتتمثل في طلب الحقيقة، سواء ظهرت على لسانه أو على لسان غيره، بل وحتى على لسان خصمه. فالخروج من دائرة الخصومة يُعتبر شرطًا أساسيًا لضبط غائية المناظرة.
  2. ثانيًا: تشخيص الآفات الأخلاقية التي قد تنجرّ إليها المناظرة.
  3. ثالثًا: وضع معايير للمباحثة تجمع بين الجانبين المعرفي والأخلاقي، وتحقق الهدف المنشود، وتستبعد محاولات التضليل والإيهام التي قد يلجأ إليها بعض المشتغلين بالمناظرة لتبرير أفعالهم وإخفاء مطامعهم.

هذا التصور الخاص بالمناظرة يندرج ضمن رؤية نقدية إحيائية أوسع نطاقًا -نسبة إلى مفهوم "إحياء علوم الدين"-، حيث انتقد الغزالي جملة من المفاهيم الأساسية -مثل الفقه والعلم-، وقدم تصورات متعلقة بتصنيف العلوم وبيان مراتبها، مع التركيز على التمييز بين الوسيلة والغاية. فالغاية القصوى للعلوم هي التقرب إلى الله تعالى، أو أن تكون دافعًا نحو هذه الغاية، بمعنى أنها "توصل العبد إلى مولاه أو تعينه على سلوك طريق الحق" كما عبر طاشْكُبْري زادَه، الذي استلهم من الغزالي في إعادة بناء تصنيف العلوم والمعارف الإسلامية.

يمكن التعبير عن نقد الغزالي للمناظرة من خلال إشكالية العلاقة بين الشكل (مجرد الفعل) والقيمة (الفعل المرتبط بهدف نبيل). على سبيل المثال، وجه الغزالي اهتمامه إلى مسألة طلب العلم، موضحًا أنه لا يجوز للمرء أن يستغرق عمره في علم واحد على وجه الاستقصاء -أي أنه يرفض فكرة الاكتفاء "بالتخصص الدقيق" وفقًا لمعايير جامعاتنا المعاصرة-؛ لأن العمر قصير والعلوم كلها وسائل لتحقيق هدف أسمى. والغزالي الموسوعي، الذي أسهم في كل علم بنصيب وافر، لم يكن بحاجة لتذكيرنا بأن هذه النصيحة نابعة من تجربة شخصية، فقد خاض غمار الخلافات والمناظرات لفترة طويلة، لكنه مع ذلك فعل، للتأكيد على أهمية كلامه وجعله أكثر تأثيرًا. فيما يلي، سأتناول المستويات الثلاثة السابقة بالتفصيل، مع الالتزام بالترتيب.

المستوى الأول: الغاية من المناظرة

يرتكز المستوى الأول على تحديد الغاية من المناظرة (أو مقاصدها)، وقد قدم الغزالي في هذا الصدد جملة من الأمور الهامة:

  • أولاً: أن الهدف الأسمى من المناظرة هو طلب الحق في المقام الأول والأخير، سواء ظهر على لسانه أو على لسان غيره. لذلك، حرص على وضع معايير وضوابط -أو شروط بتعبيره- للتمييز بين ما يهدف إلى طلب الحق وما تحركه الشهوات والآفات النفسية، كما سأوضح لاحقًا.
  • ثانيًا: أضاف الغزالي في مؤلفاته لونين جديدين من المناظرة، وهما مناظرة النفس ومناظرة الشيطان، وأكد على أولوية هذين اللونين على اللون السائد في عصره، وهو المناظرة على المذهب الكلامي والفقهي، والتي كانت غالبًا ما تهدف إلى طلب السلطة والنفوذ والتغلب على الآخرين؛ خاصة وأن تلك المناظرات الفقهية لم تكن تحدث تغييرًا حقيقيًا في المواقف، لأنها كانت تصدر عن مقلدين لا مجتهدين يسعون إلى الحق ويتبعونه حيثما وجدوه.

فالمقلد لن يستفيد من المناظرة؛ لأنه يدور مع مذهبه، يدافع عنه ويحاجج من أجله، وغايته القصوى أن يلتزم بالقولين أو الوجهين في المذهب، وهو ما لم يكن يشغل بال مناظري عصره على الأقل. وإدخال هذين اللونين -أعني مناظرة النفس والشيطان- يؤكد فكرة أن الغاية من المناظرة هي الوصول إلى الحق، مع تحديد موضوع علم المناظرة وإعادة ترتيب الأولويات لتبدأ من الباطن أولاً؛ لأن النفس والشيطان هما مصدر الآفات الأخلاقية في التصور الإسلامي عامة وفي التصور الصوفي خاصة. ففي مناظرة النفس، يتجاوز المناظر "الكلام الرسمي" الذي يعرض فيه الشخص عن الإصغاء أو يصغي بظاهر القلب فقط.

أما مناظرة النفس الحقيقية، فإنما تصدر عمن يصغي بإنصات عميق وفطنة حادة وبصيرة نافذة، وهي نتاج تفكر عميق من له قلب واعٍ، وتتطلب صفاء الذهن والذهول عن المشاغل، وأفضل وقت لها هو الخلوة. ومناظرة النفس -عند الغزالي- أجدى وأنفع من مناظرة أصحاب المذاهب المختلفة؛ وذلك لسببين جوهريين:

  • أولهما: أنه لا يضر المناظر خطأ هؤلاء ولا خطأ غيرهم، ولا هم يتقبلون منه ولا هو يتقبل منهم الصواب؛ لأن كل واحد منهم قد تحصّن بمذهبه.
  • ثانيهما: أن مناظرة النفس هي الأهم؛ لأنها تساعدها على تحقيق شهواتها الباطلة الخفية، فتستنبط بالفكر الدقيق الحيل لقضاء الشهوة، لذلك وجب البدء بمناظرتها؛ لتخليص الإنسان من الشهوات التي قد تقوده إلى إيراد الشبهات أو اختلاق الحجج لتبرير شهوة وإخراجها في صورة رأي. فبمناظرة النفس تنكشف حقيقة الأعمال، والنفس إذا لم تناظرها لمدة طويلة شغلتك عن مناجاة ربك وذكره والإقبال عليه.

أما مناظرة الشيطان فليست بعيدة عن مناظرة النفس؛ فبينهما تداخل وتشابه كبير، ومن لا يناظر الشيطان -وهو مسيطر على قلبه وأشد أعدائه- "ثم يشتغل بمناظرة غيره في المسائل التي المجتهد فيها مصيب أو مساهم للمصيب في الأجر، فهو ضُحْكة الشيطان وعبرةٌ للمخلصين"، وقد غرق في ظلمات الآفات التي سأذكرها لاحقًا.

وضع الغزالي معايير دقيقة للمناظرة أو المباحثة عن الحق، وبها يتم التمييز بوضوح بين من يناظر لله ومن يناظر لغرض آخر، أو يحاول أن يضفي الشرعية على أهوائه عبر تشبيه سلوكه بمشاورات الصحابة ومفاوضات السلف الصالح في مسائل العلم

المستوى الثاني: آفات المناظرة والرذائل المتولدة عنها

يبرز المستوى الثاني من مستويات الإحياء النقدي للمناظرة الأهمية المحورية للبعد الغائي والأخلاقي، وهو ما عبرت عنه -في مقالي السابق- بالتمييز بين المناظرة كفن (مهارات) والمناظرة كعلم (يجمع بين المعرفة والأخلاق الحميدة).

فالمناظرة -بوصفها علمًا- موضوعة من أجل المباحثة الجادة لطلب الحق؛ فهي وسيلة منهجية للوصول إليه، أما المناظرة بوصفها فنًا، فهدفها المباحثة بقصد الغلبة والإفحام وإظهار الفضل والمكانة الرفيعة والتباهي أمام الناس، وقصد المباهاة والمماراة وكسب استحسان الناس. وهذه الأمور كلها تتمحور -كما ترى- حول المناظر نفسه وأخلاقه الباطنة. وفي كلتا الحالتين، ثمة ارتباط وثيق بين المناظرة وسلوك المناظر؛ ففي الحالة الأولى يُرجى أن يدرك المتناظر الحق ويعمل به، وفي الحالة الثانية يُرجى أن يستثمر المناظرة لتنمية رذائل نفسه وتحقيق مآربه الشخصية. ومن ثم، كانت المناظرة -على المعنى الثاني- منبعًا لجميع الأخلاق المذمومة.

"فمن غلب عليه حب الإفحام والغلبة في المناظرة وطلب الجاه والمباهاة، دعاه ذلك إلى إضمار الخبائث كلها في النفس، وهيّج فيه جميع الأخلاق المذمومة" التي ترجع إلى أصول عشرة رئيسية تتفرع من كل واحدة منها خصالٌ أخرى في نظر الغزالي.

أما أصول الفواحش الباطنة أو أمهاتها التي ترجع إليها أخلاق المناظرة المذمومة فهي: الحسد، والتكبر والتعالي على الناس، والنفاق، والاستكبار عن قبول الحق، وكراهيته، والحرص الشديد على المماراة فيه؛ حتى إن "أبغض شيء إلى المُناظر أن يَظهر الحق على لسان خصمه. ومهما ظهر الحق، تَشَمّر لجحده وإنكاره ببذل أقصى جهده، واستخدام المخادعة والمكر والحيلة لدفعه؛ حتى تصير المماراة فيه عادة طبيعية فلا يسمع كلامًا إلا وينبعث من طبعه داعيةُ الاعتراض عليه حتى يغلب ذلك على قلبه في أدلة القرآن وألفاظ الشرع، فيضرب البعض منها بالبعض". ومن أصول الفواحش الباطنة في المناظرة أيضًا: الرياء؛ فالمناظر الذي يناظر لغرض آخر غير الحق لا يقصد إلا الظهور عند الخلق وانطلاق ألسنتهم بالثناء عليه.

في اعتقادي أن هذه الآفات الخُلقية تعود إلى مسألتين أساسيتين:

  • أخلاق الذات.
  • الإخلاص.

وبناءً على المسألة الأولى، وهي أخلاق الذات، يمكن ملاحظة أحوال مختلفة للمتناظرين، ويمكن تصنيفهم إلى صنفين رئيسيين:

  • الأول: مناظرة الأكابر، ومع ذلك فالعقلاءُ منهم لا ينفكون عن الخصال المذكورة سابقًا، وإن كان بعضهم قد يَسلم من بعضها مع من هو أرفع منه أو أدنى منه أو بعيد عن بلده وأسباب معيشته؛ بخلاف حاله مع أشكاله المقارِنين له في الدرجة حيث يشتد وجود هذه الآفات.
  • الثاني: من وصفهم الغزالي بـ"غير المتماسكين" من المناظِرين ممن قد يتطور لديهم الخصام إلى الضرب واللكم واللطم وتمزيق الثياب والأخذ باللحى وسب الوالدين وشتم الأستاذين والقذف الصريح. فهؤلاء ليسوا معدودين في زمرة الناس المعتبرين بحسب الغزالي؛ فكلامه كله إنما هو في الصنف الأول الذي يسعى إلى تهذيبه وتسديد ممارسته للمناظرة عبر هذا الإحياء النقدي للمناظرة.

أما أصحاب الصنف الأول، فهم على مراتب بحسب درجاتهم؛ فلا ينفك أعظمهم دينا وأكثرهم عقلا عن جُملة من هذه الأخلاق الذميمة، "وإنما غايته إخفاؤها ومجاهدة النفس بها"، وهي -بالجملة- "لازمة لكل من يطلب بالعلم غير ثواب الله تعالى في الآخرة". وهذه الرذائل لازمة أيضًا للمشتغل بالتذكير والوعظ؛ إذا كان قصده طلب القبول بين الناس وإقامة الجاه ونيل الثروة والعزة، وهي لازمة -أيضًا- للمشتغل بعلم الفقه والفتاوى؛ إذا كان قصده طلب القضاء وولاية الأوقاف والتقدم على الأقران.

أما بالنسبة إلى المسألة الثانية وهي الإخلاص، فإن "طالب الرياسة في نفسه هالك" -بحسب الغزالي- وإن صلح بسببه غيره؛ إن كان هو ممن يدعو إلى ترك الدنيا ولكنه يُضمر -في نفسه- قصد الجاه، ولن ينفعه التعلل بأن المناظرة فيها ترغيب للناس في طلب العلم؛ من حيث إنه لولا حب الرياسة لاندرست العلوم؛ فإنه كالشمعة؛ ينفع غيره ويُضر بنفسه. وذلك أن العلماء -بحسب الغزالي- ثلاثة أصناف:

  • إما مُهلك نفسه وغيره، وهو المصرح بطلب الدنيا والمقبل عليها بكل جوارحه.
  • وإما مُسعد نفسه وغيره، وهو الداعي الخلق إلى الله سبحانه وتعالى ظاهرًا وباطنًا.
  • وإما مُهلك نفسه مُسعد غيره، وهو الذي يدعو إلى الآخرة وقد رفض الدنيا في ظاهره، وقصده -في الباطن- قبول الخلق وإقامة الجاه.

المستوى الثالث: معايير التمييز بين نوعي المناظرة

وضع الغزالي معايير واضحة للمناظرة أو المباحثة عن الحق، وبها يتم التمييز بين من يناظر لله ومن يناظر لغرض آخر، أو يحاول أن يضفي الشرعية على أهوائه عبر تشبيه سلوكه بمشاورات الصحابة ومفاوضات السلف الصالح في مسائل العلم، وهو بعيد كل البعد عن مقاصدهم النبيلة وإن تشابه معهم في الشكل الظاهري. فالحق ضالة يجب البحث عنها والوصول إليها، والتعاون على النظر في العلم وتبادل الأفكار مفيد ومؤثر، ولكن له معايير دقيقة وكثيرة، ذكر الغزالي ثمانية منها، ترشدنا إلى التمييز بين من يناظر ابتغاء وجه الله ومن يناظر لغرض دنيوي آخر، وتدور -في نظري- حول ثلاثة جوانب رئيسية:

  • فعل المناظرة وأهميته مقارنةً بغيره من الأفعال في الوقت المحدد.
  • أحوال المناظر نفسه.
  • موضوع المناظرة.

وهذه المعايير الثمانية هي:

  1. أولاً: أن الاشتغال بالمناظرة إنما يكون بعد الانتهاء من أداء فروض الأعيان؛ لأن المناظرة من فروض الكفاية. فمن كان عليه فرض عين ثم انشغل بفرض كفاية وادعى أن هدفه هو الوصول إلى الحق فهو كاذب. ولاكتمال الطاعة وتحقق وصف الطائع في فعله لا بد من اجتماع عدة أمور هي: أن يكون الفعل من جنس الطاعات، ومراعاة الوقت المناسب، والشروط المعتبرة، والترتيب الصحيح.
  2. ثانيًا: ألا يرى المناظر فرض كفاية أهم من المناظرة؛ فإن رأى ما هو أهم وفعل غيره عصى بفعله؛ لعدم الانسجام بين ما يعتقده وما يفعله.
  3. ثالثًا: أن يكون المناظر مجتهدًا يفتي برأيه الخاص؛ أما من ليس له رتبة الاجتهاد وإنما يفتي فيما يُسأل عنه؛ ناقلا عن مذهب الإمام الذي يتبعه، فما الفائدة من المناظرة ومذهبه معلوم وليس له حق الفتوى بغيره؟ فإن كان مقلدًا، فقد أغلق على نفسه باب طلب الحق؛ فلو تبين له ضعف مذهبه لم يَجز له أن يتركه، وهذا يعني أن المناظرة تحولت هنا إلى مجرد شكل خالٍ من المضمون. ولكن يرد هنا إشكالان على كلام الغزالي، وهما: أولًا: أنه إذا كان التقليد "هو حكم كل أهل العصر" -كما يقول الغزالي نفسه- فإن هذا المعيار يعود بالنقض على جميع المناظرات التي تجري بين المذاهب والتي قامت عليها فنون الجدل الفقهي في القرن الخامس الهجري وما بعده. وثانيًا: أن مقلدة المذاهب من العلماء قد وصلوا إلى اليقين بصحة مذهبهم، ومن ثم فكلٌّ منهم -وإن كان مقلدًا- يناظر عما يعتقده حقًا أو ما هو الأرجح على أقل تقدير.
  4. رابعًا: ألا يناظر إلا في مسألة واقعة أو قريبة الوقوع غالبًا، وعلى المناظرين أن يهتموا بانتقاء المسائل التي تعم بها البلوى بالفتوى فيها، ومن يقصد الحق عليه أن يقتصد في الكلام ويبلغ الغاية على وجه السرعة والاختصار لا أن يطيل الكلام بلا طائل.
  5. خامسًا: أن تكون المناظرة في الخلوة أحب إلى المناظر وأهم عنده من المناظرة في المحافل العامة وبين أظهر عليّة القوم وأصحاب السلطة؛ فإن الخلوة أجمع للفهم وأحرى بصفاء الذهن والفكر وإدراك الحق، وفي حضور الجمع ما يحرك دواعي الرياء ويوجب الحرص على نصرة كل واحد لنفسه، محقًا كان أو مبطلاً.
  6. سادسًا: أن يكون المناظر -في طلب الحق- كناشد ضالة (أي باحثًا عن شيء مفقود) لا يهمه أن تظهر الضالة على يده أو على يد من يعاونه، ويرى رفيقه مُعينًا له لا خصمًا، ويشكره إذا نبّهه إلى الخطأ وأظهر له الحق.
  7. سابعًا: ألا يمنع المناظرُ مُعينه في النظر (فالمناظرة في جوهرها هي تعاون على النظر وطلب الحق)، من الانتقال من دليل إلى دليل، ومن إشكال إلى إشكال، وأن يستخرج من كلام مُعينه جميع دقائق الجدل المتعلقة بالموضوع.
  8. ثامنًا: أن يناظر من يتوقع الاستفادة منه ممن هو مشتغل بالعلم، ومع ذلك فإن الغالب على المناظرين أنهم يتجنبون مناظرة العلماء الكبار؛ خوفًا من ظهور الحق على ألسنتهم، فيرغبون في مناظرة من هم أقل منهم علمًا؛ طمعًا في ترويج الباطل عليهم.

يساعدنا هذا التصور الثلاثي للمناظرة على الجمع بين الجانب المعرفي والجانب الأخلاقي في العقلانية الحجاجية؛ حيث يجمع بين الشكل والمضمون، وينتقل من فن المناظرة الذي يتمحور حول "المهارات" (skills) وتملك التقنيات والقدرة على الإقناع ولو بأفكار واهية، إلى علم المناظرة الذي يهدف إلى طلب الحق، حيث يتحول الخصم المفترض إلى معين على النظر (فالمناظرة هي تفاعل بين طرفين أو أكثر لتمتين النظر وتقويته).

والأولوية في علم المناظرة تكون لإقناع الذات أولًا ودفع وساوس النفس والشيطان بأساليب حجاجية عقلية تقود إلى تزكية النفس وتخليصها من الرذائل. وهذا الانتقال بالمناظرة من مجرد فن إلى علم حقيقي يساهم في تجاوز الآفات الأخلاقية التي ابتليت بها المناظرة تاريخيًا عندما تحولت إلى شكل مجرد عن القيمة الجوهرية، ومن أجل التمييز بين المناظرة كعلم والمناظرة كفن، وُضعت معايير حاكمة لضبط الفرق بين نمطي الحِجاج، والله أعلم.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة